مجتمع

إدمان التسوق بين الرغبة والهوس الصامت الذي يستنزف النفس والمال

إدمان التسوق بين الرغبة والهوس الصامت الذي يستنزف النفس والمال

يُعد التسوق من العادات اليومية التي يمارسها الناس بشكل طبيعي لتلبية حاجاتهم أو رغباتهم، غير أن بعض الأفراد يتجاوزون حدود هذا السلوك المألوف ليدخلوا في حالة من التعلق المرضي بالتسوق، بحيث يتحول إلى ملاذ نفسي للهروب من الضغوط اليومية أو وسيلة مؤقتة لبلوغ شعور بالراحة. لكن هذه المتعة اللحظية غالباً ما تنقلب إلى عبء نفسي ومالي كبير يثقل كاهل الفرد.

وفي حالات متعددة، لا يكون الدافع الحقيقي وراء الشراء هو الحاجة إلى المنتج بحد ذاته، بل يكمن في رغبة داخلية قوية تدفع الشخص إلى اقتناء الأشياء دون تفكير مسبق أو ضرورة فعلية، وهو ما يُعرف في علم النفس بما يسمى “الشراء القهري”. هذا الاضطراب أشار إليه الطبيب النفسي الألماني إميل كريبيلين قبل أكثر من مئة عام، ووصفه بمصطلح “oniomania” الذي يعني جنون الشراء، والذي يمثل نمطاً قهرياً من السلوك الشرائي.

وعلى الرغم من أن هذا السلوك لا يصنف رسمياً ضمن قائمة الأمراض العقلية بحسب منظمة الصحة العالمية، على عكس إدمان القمار أو ألعاب الفيديو، إلا أن المختصين في علم النفس يرونه مسألة جديرة بالتأمل والدراسة، نظراً لما يخلفه من آثار سلبية على الحياة اليومية للفرد وعلاقاته الأسرية والمهنية. فبعض الأشخاص المصابين بهذا الاضطراب يشعرون بإلحاح لا يمكن السيطرة عليه يدفعهم إلى التسوق دون قدرة على التوقف أو التحكم في هذه الرغبة المفاجئة.

في السياق ذاته، تتجلى الجوانب النفسية لهذا السلوك في محاولات للهروب من القلق أو الحزن أو حتى الشعور بالفراغ، حيث يتحول الشراء إلى نوع من التسكين المؤقت للمشاعر السلبية. إلا أن هذه النشوة لا تلبث أن تزول، لتُفسح المجال لشعور بالذنب وتأنيب الضمير، يرافقه تراكم الديون ومشاكل مادية، وقد يؤدي الأمر إلى تدهور الصحة النفسية وظهور علامات الاكتئاب أو العزلة الاجتماعية.

وقد أظهرت دراسات ميدانية، مثل إحدى الدراسات الأميركية التي أشارت إلى أن نحو 5.8% من السكان يعانون من هذا الاضطراب، أن الظاهرة منتشرة بشكل لا يستهان به في المجتمعات المعاصرة، خصوصاً في ظل انتشار مراكز التسوق الكبرى والتسويق الرقمي المكثف. وهذا الرقم يكشف عن عمق المشكلة التي لا تنحصر فقط في الجانب السلوكي، بل تمتد إلى أبعاد اقتصادية ونفسية تؤثر على توازن الفرد والأسرة.

ولا تقتصر المشكلة على الوقوع في دائرة الشراء المتكرر، بل تمتد إلى فشل كثير من الأفراد في التوقف عن هذا السلوك رغم وعيهم بعواقبه، إذ تتعارض المحاولات الفردية للإقلاع عنه مع مقاومة داخلية قوية، نابعة من مشكلات في المزاج أو أفكار معرفية مشوشة تجعلهم أكثر عرضة للتعلق بما يوفره التسوق من ارتياح مؤقت، ما يعزز استمرارهم في هذا السلوك دون وعي حقيقي بأسبابه العميقة.

من جهة أخرى، يوصي خبراء الصحة النفسية بضرورة التعامل مع هذا الاضطراب ضمن مقاربة علاجية شاملة، تتضمن جلسات العلاج المعرفي السلوكي، والتوجيه النفسي، وأحياناً الدعم الدوائي في حال وجود أعراض اكتئاب مصاحبة. كما يُعد وعي المحيط الأسري والمهني جزءاً أساسياً في دعم المصاب ومساعدته على كسر دائرة الإدمان بشكل تدريجي ومنهجي.

فبينما يُنظر إلى التسوق في ظاهره على أنه نشاط ممتع وطبيعي، يمكن أن يتحول في باطنه إلى سلوك هروبي يعكس معاناة داخلية عميقة. ومن هذا المنطلق، فإن الوعي بأبعاد هذا الاضطراب، والاعتراف به كحالة تستوجب المتابعة والعلاج، هو خطوة ضرورية لتفادي آثاره الصامتة والمدمرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى